الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
أقام سنينًا متجردًا ويمشي في الأسواق عريانًا ويخلط في كلامه وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته وقد تقدم ذكره وذكر المرأة التي تبعته المعروفة بالشيخة أمونة وكان يحلق لحيته وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون الى تخليطاته ويوجهون ألفاظه ويؤلونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقائعهم وكان له أخ من مساتير الناس فحجر عليه ومنعه من الخروج وألبسه ثيابًا ورغب الناس في زيارته وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة وأتوا إليه الهدايا والنذور وجروا على عوائدهم في التقليد وازدحم عليه الخلائق وخصوصًا النساء فراج بذلك أمر أخيه واتسعت دنياه ونصبه شبكة لصيده ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت وسمن بدنه وعظم جسمه من كثرة الأكل والراحة وقد كان قبل ذلك عريانًا شقيانًا يبيت غالب لياليه بالجوع طاويًا من غير أكل بالأزقة في الشتاء والصيف وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته وقضاء حاجته ولايزال يحدث نفسه ويخلط في ألفاظه وكلامه وتارة يضحك وتارة يشتم ولابد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات فيعدون ذلك كشفًا واطلاعًا على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم ويحتمل أن يكون كذلك فإنه كان من البله المجاذيب المستغرقين في شهود حالهم وسبب نسبتهم هذه أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكرية ولم يزل هذا حاله حتى توفي في هذه السنة واجتمع الناس لمشهده من كل ناحية ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي في قطعة من المسجد وعملوا على قبره مقصورة ومقامًا يقصد للزيارة واجتمع عند مدفنه في ليال وميعادات قراء ومنشدون وازدحم عند أصناف الخلائق ويختلط النساء بالرجال ومات أخوه أيضًا بعده بنحو ومات الوجيه المكرم والنبيه المفخم مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي ولد سنة 174 ونشأ في حجر والده وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره وحفظ البرجلي والشاهدي ومهر في اللغة التركية وتفقه على أبيه وقرأ عليه علم الصرف وحضر على بعض الأشياخ ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجيرت بالأزهر ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأروام ولبس له تاجًا وفراجة وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي وذلك قبل نبات لحيته وكان وسيمًا جسيمًا بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من الناس من أبناء العرب والأتراك والأمراء والأجناد فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان وممن كان يحضره علي آغا مستحفظان وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيرًا ويذهب هو أيضًا الى داره كثيرًا وكان والده متوليًا على وقف اسكندر ومشيخة التكية بباب الخرق فكان هو المتكلم على ذلك عوضًا عن أبيه واتفق أنه حاسب المباشر على ذلك وهو الشيخ أحمد الصفطة وطالبه بما تأخر عليه فما طلبه فأغرى به علي آغا المذكور فطلب الشيخ أحمد المذكور ونكل به وشهره وعلقه على شباك السبيل بباب الخرق بقاووقه وهيئته واجتمع الناس للفرجة عليه يومًا كاملًا ثم أطلقه فاشتهر أمر المترجم وهابه الناس وأكثر من الترداد الى بيوت الأمراء وعظموه وأحبوه وأكرموه لاتحاد الجنسية وارتباط الحيثية ولما توفي مصطفى أفندي شيخ رواقهم انتبذ هو لطلب المشيخة وذهب الى مراد بك فألبسه فروة على مشيخة الرواق فتعصب أهل الرواق وأبوا مشيخته عليهم لحداثة سنه واجتمعوا وذهبوا الى مراد بك فزجرهم ونهرهم وطردهم فرجعوا بقهرهم وسكتوا واستمر شيخًا عليهم يأتي الى الرواق في كل يوم ويقرأ لهم الدرس كما كان من قبله واشتهر ذكره وعظمت لحيته وصار ذا وجاهة عظيمة وسكن دارًا عظيمة جهة التبانة من وقف رواقهم ودعا إليه الأعيان والأكابر وعمل لهم ولائم وقدم لهم التقادم والهدايا واحتفل به مصطفى آغا الوكيل وسعى له في أشغاله وكاتب الدولة في شأنه فأرسلوا له مرتبًا بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفًا في كل يوم واتسع حاله وأقبلت عليه الدنيا من كل جهة ومات أبوه في سنة أربع ومائتين وألف وكان ذا مكنة وحرص فأحرز مخلفاته أيضًا وباع تركته وكان سليط اللسان في حق الناس فاتفق له أنه لما حضر حسن باشا الى مصر فحضر مرة الى زيارة المشهد الحسيني وجلس مع الشيخ السادات والشيخ البكري فدخل عليهم المترجم فجلس هنيهة ثم قام فسأل عنه حسن باشا فأخبره الشيخ السادات عن أحواله وتكلمه في حق الناس فأمر بنفيه فانزعج عليه والده ثم ذهب الى حسن باشا وكلمه فرق له ورحم شيبته وأمر برد ابنه فرجع من ليلته ولم يزل يستعى ويتحيل حتى أحضر حسن باشا الى داره وجدد معه صداقة وصحبة حتى كاد أن يأخذه صحبته ولم يزل في فوعته وفورته حتى غار ماء حياته وانغلق عن الفتح باب قبره عند مماته وهو مقتبل الشبيبة في هذه السنة. ومات الشيخ المحترم المبجل الشيخ أحمد بن الإمام العلامة سالم النفراوي المالكي نشأ في حجر والده في رفاهية وتنعم ورياسة ولما مات والده تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوي وحاز له وظائف والده وتعلقاته وأجلسه للإقراء في مكان درس أبيه وأمر جماعة أبيه بالحضور عليه وكان الشيخ علي الصعيدي من أكبر طلبة أبيه فتطلع للجلوس في محله وكان أهلًا لذلك فعارضه الشيخ الشبراوي وأقصاه وصدر ولده لذلك مع قلة بضاعته ولتغة في لسانه فحقد ذلك في نفس الشيخ الصعيدي سنينًا وكان المترجم ذا دهاء ومكر وتصدى للقضايا والدعاوي واتخذ له أعوانًا واشتهر ذكره وعد من الكبار وترددت إليه الأمراء والأعيان وصار ذا صولة وهيبة ولما ظهر شأن علي بك كان يرعى له حقه وحالته التي وجده عليها ويقبل شفاعته ويكرمه حتى أنه كان يأتي إليه بداره التي بالجيزة فلما مات علي بك وانتقلت الرياسة الى محمد بك وكان له عناية بالشيخ الصعيدي ويسمع لقوله وكان السيد محمد بدوي بن فتيح القباني مباشر المشهد الحسيني يعلم كراهة الشيخ الصعيدي الباطنية للمترجم فيرصد الوقت الذي يحضر فيه الشيخ الصعيدي عند الأمير ويفتح مذاكرته والتكلم في حقه فيساعده الشيخ ويظهر المكمون في نفسه من المترجم ويذكرون مساويه وقبائحه وما بيده من الوظائف بغير حق وما تحت نظارته من الأوقاف المتخربة حتى أوغروا صدر الأمير عليه فنزع منه وظائفه وفرقها على من أشاروا عليه بتقليده إياها وأهانه فعند ذلك تسلطت عليه الألسن وكثرت فيه الشكاوى وتجاسر عليه الأنذال وتطاول عليه الأرذال وهدموا بيته الذي بالجيزة لأنه كان تعدى في بنائه وأخذ قطعة من الطريق التي يسلك منها الناس فعند ذلك خمل ذكره وبرد أمره واستمر على ذلك حتى توفي في هذه السنة غفر الله له وسامحه بمنه وكرمه. سنة ثمان ومائتين وألف فيها أوفى النيل أذرعه في سادس عشر المحرم الموافق لثامن عشر مسرى القبطي وأول برج السنبلة وفيها انحلت الأسعار وبورك في رمي الغلال حتى أن الفدان الواحد زكا بقدر خمسة أفدنة وبلغ النيل الى الزيادة المتوسطة وثبت الى أول بابه وشمل الماء غالب الأرض بسبب التفات الناس لسد المجاري وحفر الترع وإصلاح الجسور. وفي أوائل شهر صفر وصل قابجي من الديار الرومية بطلب مال المصلحة والحلوان فأنزلوه في دار وهادوه ورتبوا له مصروفًا. ومن الحوادث أن الناس انتظروا جاويش الحاج وتشوفوا لحضوره ولم يذهب إليهم في هذه السنة ملاقاة بالوش ولا بالازلم وأرسل ابراهيم بك هجانًا يستخبر عن الحجاج فذهب ورجع ليلة الثالث والعشرين من شهر صفر وأخبر أن العرب تجمعوا على الحج من سائر النواحي عند مغاير شعيب ونهبوا الحجاج وكسروا المحمل وأحرقوه وقتلوا غالب الحجاج والمغاربة معهم وأخذوا أحمالهم ودوابهم ونهبوا أثقالهم وانجرح أمير الحج وأصابه ثلاث رصاصات وغاب خبره ثلاثة أيام ثم أحضره العرب وهو عريان في أسوأ حال وأخذوا النساء بأجمالهن والذي تبقى منهم أدخلوه الى قلعة العقبة وتركهم الهجان بها من غير ماء ولا زاد فنزل بالناس من الغم والحزن تلك الليلة ما لا مزيد عليه ثم إنهم عينوا محمد بك الألفي وعثمان بك الأشقر ليسافرا بسبب ذلك فخرجا في يوم الخميس سابع عشرين صفر وخطف أتباعهم في ذلك اليوم ما صادفوه من الجمال والبغال والحمير وقرب السقائين التي تنقل الماء من الخليج ونهبوا الخبز من الطوابين والمخابز والكعك والعيش من الباعة وفي يوم خروجهم وصل جماعة من الحجاج ودخلوا في أسوأ حال من العري والجوع والتعب فلما وصلوا الى نخل تلاقوا مع باقي الحجاج على مثل ذلك ووجدوا أمير الحاج ذهب الى غزة وصحبته جماعة من الحجاج وأرسل يطلب الأمان ولم يزوروا المدينة في هذه السنة وأرسل من صرة المدينة اثنين وثلاثين ألف ريال مع عرب حرب ضاع في هذه الحادثة من الأموال والمحزوم شيء كثير جدًا وأخبروا أن مواسم هذا العام كان من أعظم المواسم لم يتفق مثله من مدة مديدة وفي يوم الاثنين غرة ربيع الأول دخل باقي الحجاج على مثل حالة من وصل منهم قبل ذلك وفي صبحها يوم الثلاثاء عملوا الديوان بالقلعة واجتمع الأمراء والوجاقلية والمشايخ وقرئ المرسوم الذي حضر بصحبة الآغا فكان مضمونه طلب الحلوان والخزينة وقدر ذلك تسعة آلاف وأربعمائة كيس وعشرة آلاف وخمسة وأربعون نصفًا فضة تسلم ليد الآغا المعين من غير تأخير. وفيه عملوا على زوجات أمير الحاج ثلاثين ألف ريال وأرسلوا الى بيت حسن كاشف المعمار فأخذوا ما فيه من الغلال وغيرها لأنه قتل في معركة العرب مع الحجاج وألبسوا زوجته الخاتم قهرًا عنها ليزوجوها لمملوك من مماليك مراد بك وهي بنت علي آغا المعمار ووجدت على زوجها وجدًا عظيمًا وأرسلت جماعة لإحضار رمته من قبره الذي دفن فيه في صندوق على هيئة تابوت. وفيه شرع الأمراء في عمل تفريدة على البلاد بسبب الأموال المطلوبة وقرروها عال وهو أربعمائة ريال ووسط ثلثمائة والدون مائة وخمسون وكتبوا أوراقها على الملتزمين ليحصلوها منهم. وفي يوم الخميس سافر حسن كتخدا أيوب بك بأمان لعثمان بك ليحضره من غزة ووصل المتسفرون بجثة حسن كاشف المعمار. وفي عشرين جمادى الأولى وصل عثمان بك طبل الاسماعيلي أمير الحاج الى مصر مكسوف البال ودخل الى بيته. وفيه حضر الصدر الأعظم يوسف باشا الى الاسكندرية ليتوجه الى الحجاز فاعتنى الأمراء بشأنه وأرسلوا له ملاقاة وتقادم وهدايا وفرشوا له قصر العيني ووصل الى مصر وطلع من المراكب الى قصر العيني وأرسلوا له تقادم وضيافات ثم حضروا للسلام عليه في زحمة وكبكبة فخلع على ابراهيم بك ومراد بك خلعًا ثمينة وقدم لهما حصانين بسرجين مرختين ثم نزل الباشا المتولي بعد يومين وسلم عليه ورجع القلعة وأقاموا لخفارته عبد الرحمن بك الابراهيمي جلس بالقصر المواجه لقصر العيني وقد تخيلوا من حضوره وظنوا ظنونًا وفي يوم الأحد ثالث جمادى الثانية طلع يوسف باشا الى القلعة باستدعاء من الباشا المتولي فجلس عنده الى بعد الظهر ونزل في موكب حافل الى محله بقصر العيني وأرسل له ابراهيم بك ومراد بك مع كتخدائهم هدية وهي خمسمائة أردب قمح ومائة أردب أرز وتعبيات أقمشة هندية وغير ذلك وأقام بالقصر أيامًا وقضوا أشغاله وهيؤوا له اللوازم والمراكب بالسويس وركب في أواسط جمادى الثانية وذهب الى السويس ليسافر الى جدة من القلزم وانقضت هذه السنة وحوادثها واستهلت أخرى. من مات فيها من الأعيان ومن سارت بذكرهم الركبان مات نادرة الدهر وغرة وجه العصر إنسان عين الأقاليم فريد عقد المجد النظيم جامع الفضائل والمحاسن ومظهر اسم الظاهر والباطن من لبس رداء النجابة في صباه ولاح عنوان المكارم على صحائف علاه ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده الحسيب النسيب والنجيب الأريب السيد محمد أفندي البكري الصديقي شيخ سجادة البكرية ونقيب السادة الأشراف بمصر المحمية تقلد بعد والده المنصبين وورث عنه السيادتين فسار فيهما سيرة الملوك ونثر فرائد المكارم من أسلاك السلوك فجوده حدث عن البحر ولا حرج وبراعة منطقه تلتج سلب الألباب والمهج مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال وأخبار غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان زمانه كأنه عروس الفلك فكم قال له الدهر أما الكمال فلك ولم يزل كذلك الى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال وقطفت زهرة شبابه وقد سقتها دموع أحبابه وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثامن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه وبالجملة فهو كان مسك الختام قلما تسمح بمثله الأيام ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي. ومات علامة العلوم والمعارف وروضة الآداب الوريقة وظلها الوارف جامع المزايا والمناقب شهاب الفضل الثاقب الإمام العلامة الشيخ أحمد ابن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية وعلى الشمس الحفني الصيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر بن أبي جمرة والشمائل وابن حجر على الأربعين والجامع الصغير وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الاطفيجي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة وكان معيدًا لدروسه وسمع عليه الصحيح بجامع مرزه ببولاق وسمع من الشيخ ابن الطيب الشمائل لما ورد مصر متوجهًا الى الروم وحضر دروس الشيخ يوسف الفني والشيخ ابراهيم الحلبي وابراهيم بن محمد الدلجي ولازم الشيخ الوالد وأخذ عنه وقرأ عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقائق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زادة وغير ذلك وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيرًا واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العربان فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه كما تقدم واختاروه لهذه الخطة العظيمة فكان كذلك واستمر شيخ الجامع على الإطلاق ورئيسهم بالاتفاق يدرس ويعيد ويملي ويفيد ولم يزل يراعي للحقير حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة وسمعت من فوائده كثيرًا ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي والمطول وعصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك وكان رقيق الطباع مليح الأوضاع لطيفًا مهذبًا إذا تحدث نفت الدر وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر ولم تزل كؤوس فضله على اطلبة مجلوة حتى ورد موارد الموت ودعاه الله تعالى بجوار الجنان وتلقاه جدثه بروح رحمة ورضوان وذلك في حادي عشرين شعبان وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بمدفن صهره الشيخ العريان تغمده الله بالرحمة والرضوان ومن تآليفه شرح على نظم التنوير في إسقاط التدبير للشيخ الملوي وهو نظم وحاشية على الملوي على السمرقندية وغير ذلك وخلف أولاده الأربعة كلهم فضلاء أذكياء نبلاء أحدهم الذي تعين بالتدريس في محله بالأزهر العلامة اللوذعي والفهامة الألمعي شمس الدين السيد محمد وأخوه النبيل الفاضل المتقن شهاب الدين السيد أحمد وأخوه الذكي اللبيب والفهيم النجيب السيد عبد الرحمن والنبيه الصالح والمفرد الناجح السيد مصطفى بارك الله فيهم. ومات الخواجة المعظم والملاذ المفخم حائز رتب الكمال وجامع مزايا الأفضال سيدي الجامع محمود بن محرم أصل والده من الفيوم واستوطن مصر وتعاطى التجارة وسافر الى الحجاز مرارًا واتسعت دنياه وولد له المترجم فتربى في العز والرفاهية ولما ترعرع وبلغ رشده وخالط الناس وشارك وباع واشترى وأخذ وأعطى ظهرت فيه نجابة وسعادة حتى كان إذا مسك التراب صار ذهبًا فانجمع والده وسلم له قياد الأمور فاشتهر ذكره ونما أمره وشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية وعرف بالصدق والأمانة والنصح فأذعنت له الشركاء والوكلاء ووثقوا بقوله ورأيه وأحبه الأمراء المصرية وتداخل فيهم بعقل وحشمة وحسن سير وفطانة ومداراة وتؤدة وسياسة ولطف وأدب وحسن تخلص في الأمور الجسيمة وعمر داره ووسعها وأتحفها وزخرفها وأنشأ بها قاعة عظيمة وأمامها فسحة مليجة الشكل وحول القاعة بستان بديع المثال وهي مطلة عليه من الجهتين وزوج ولده سيدي أحمد الموجود الآن وعمل له مهمًا عظيمًا دعا إليه الأكابر والأعيان والتجار وتفاخر فيه الى الغاية وعمر مسجدًا بجوار بيته بالقرب من حبس الرحبة فجاء في غاية الإتقان والحسن والبهجة ووقف عليه بعض جهات ورتب فيه وظائف وتدريسًا وبالجملة كان إنسانًا حسنًا وقورًا محتشمًا جميل الطباع مليح الأوضاع ظاهر العفاف كامل الأوصاف حج في هذه السنة من القلزم ورجع في البر مع الحجاج في إمارة عثمان بك الشرقاوي على الحج في أحمال مجملة وهيئة زائدة مكملة فصادفتهم شوبة فقضي عليه فيها ودفن بالخوف ولم يخلف في بابه مثله رحمه الله. ومات الأمير حسن كاشف المعمار وأصله مملوك محمود بك وأعطاه لعلي آغا المعمار أخذه صغيرًا ورباه ودربه في الأمور وزوجه ابنته وعمل لزواجهما مهمًا وولائم ولما مات سيده قام مقامه وفتح بيته ووضع يده على تعلقاته وبلاده ونما أمره وانتظم في سلك الأمراء المحمدية لكونه في الأصل مملوك محمد بك وخشداشهم وكان رئيسًا عاقلًا ساكن الجأش جميل الصورة واسع العينين أحورهما ولما حج في هذه السنة وخرجت عليهم العرب ركب وقاتلهم حتى مات شهيدًا ودفن بمغاير شعيب ونهب متاعه وأحماله وحزنت عليه زوجته الست حفيظة ابنة علي آغا حزنًا شديدًا وأرسلت مع العرب ونقلته الى مصر ودفنته عند أبيها بالقرافة وزوجته المذكورة هي الآن زوجة لسليمان بك المرادي. ومات الأمير شاهين بك الحسني وقد تقدم أنه كان حضر الى مصر رهينة وسكن ببيت بالقرب من الموسكي وهو مملوك حسن بك الجداوي أمره أيام حسن باشا وسكن ببيت مصطفى بك الكبير الذي على بركة الفيل المعروف سابقًا بشكر فره وصار من جملة الأمراء المعدودين ولما مات اسمعيل بك وحصل على ما تقدم من قدوم المحمديين وخروجهم فحضر المترجم صحبة عثمان بك الشرقاوي رهينة عن سيده وأقام بمصر وكان سبب موته أن إنسانًا كلمه عن أصول الصبغة التي تنبت بالغيطان ولها ثمر يشبه عنب الديب في عناقيد يصبغ منه القراشون مياه القناديل في المواسم والأفراح وإن من أكل من أصولها شيئًا أسهله إسهالًا مفرطًا ولم يذكر له المسكن لذلك ولعله كان يجهله فأرسل من أتى له بشيء منها من البستان وأكل منه فحصل له إسهال مفرط حتى غاب عن حسه ومات وتسكين فعلها إذا بلغت غايتها أن يمتص شيئًا من الليمون المالح فإنها تسكن في الحال ويفيق الشخص كأن لم يكن به شيء ومات الأمير أحمد بك الوالي بقبلي وهو أيضًا مملوك حسن بك الجداوي وقد تقدم ذكره ووقائعه مع أهل الحسينية وغيرهم في أيام زعامته. لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم واتخذ مراد بك الجيزة سكنًا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة بعضها بالثمن القليل وبعضها غصبًا وبعضها معاوضة واتخذ صالح آغا أيضًا له دارًا بجانبه وعمرها وسكنها بحريمه ليكون قريبًا من مراد بك. وفي سابع عشرين المحرم الموافق لعشرين شهر مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد في صبحها بحضرة الباشا والأمراء وجرى الماء في الخليج. وفي شهر صفر ورد الخبر بوصول صالح باشا والي مصر الى اسكندرية وأخذ محمد باشا في أهبة السفر ونزل وسافر الى جهة اسكندرية. وفي عشرين شهر ربيع الأول وصل صالح باشا الى مصر وطلع الى القلعة. وفي أواخره ورد الخبر بوصول تقليد الصدارة الى محمد باشا عزت المنفصل عن مصر وورد عليه التقليد وهو باسكندرية وكان صالح آغا الوكيل ذهب صحبته ليشيعه الى اسكندرية فأنعم إليه بفرمان مرتب على الضربخانة باسم حريمه ألف نصف فضة في كل يوم. وفي ليلة السبت خامس عشر ربيع الثاني أمطرت السماء مطرًا غزيرًا قبل الفجر وكان ذلك آخر بابه القبطي. وفي شهر الحجة وقع به من الحوادث أن الشيخ الشرقاوي له حصة في قرية بشرقية بلبيس حضر إليه أهلها وشكوا من محمد بك الألفي وذكروا أن أتباعه حضروا إليهم وظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر الى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا أبواب الجامع وذلك بعد ما خاطب مراد بك وابراهيم بك فلم يبديا شيئًا ففعل ذلك في ثاني يوم وقفلوا الجامع وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا في ثاني يوم واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم وذهبوا الى بيت الشيخ السادات وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة بحيث يراهم ابراهيم بك وقد بلغه اجتماعهم فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار فحضر إليهم وسلم عليهم ووقف بين يديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا له: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها فقال: لا يمكن الإجابة الى هذا كله فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك والأمير يكون أميرًا بالإعطاء لا بالأخذ فقال: حتى أبلغ وانصرف ولم يعد لهم بجواب وانفض المجلس وركب المشايخ الى الجامع الأزهر واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية وباتوا بالمسجد وأرسل ابراهيم بك الى المشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي وأرسل الى مراد بك يخيفه عاقبة ذلك فبعث مراد بك يقول: أجيبكم الى جميع ما ذكرتموه إلا شيئين ديوان بولاق وطلبكم المنكسر من الجامكية ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثًا ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر ورجعوا من عنده وباتوا على ذلك تلك الليلة وفي اليوم الثالث حضر الباشا الى منزل ابراهيم بك واجتمع الأمراء هناك وأرسلوا الى المشايخ فحضر الشيخ السادات والسيد النقيد والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير وكان المرسل إليهم رضوان كتخدا ابراهيم بك فذهبوا معه ومنعوا العامة من السعي خلفهم ودار الكلام بينهم وطال الحديث وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق ويبطلوا رفع الظلم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس ما عدا ديوان بولاق وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم الى أموال الناس ويرسلوا صرة الحرمين والعوائد المقررة من قديم الزمان ويسيروا في الناس سيرة حسنة وكان القاضي حاضرًا بالمجلس فكتب حجة عليهم بذلك وفرمن عليها الباشا وختم عليها ابراهيم بك وأرسلها الى مراد بك فختم عليها أيضًا وانجلت الفتنة ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة ونزل عقيب ذلك مراد بك الى دمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك. ومات الإمام العلامة والرحلة الفهامة بقية المحققين وعمدة المدققين الشيخ المعمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الوهاب السمنودي المحلي الشافعي من بيت العلم والصلاح والرشد والفلاح وأصلهم من سمنود ولد هو بالمحلة وقدم الجامع الأزهر وحضر على الشمس السجيني والعزيزي والملوي والشبراوي وتكمل في الفنون الغربية وتلقى عن السيد على الضرير والشيخ محمد الغلاني الكشناوي مشاركًا للشيخ الوالد والشيخ ابراهيم الحلبي وعاد الى المحلة فدرس في الجامع الكبير مدة ثم أتى الى مصر بأهله وعياله ومكث بها وأقرأ بالجامع الأزهر درسًا وتردد الى الأكابر والأمراء وأجلوه وقرأ في المحمدية بعد موت الشنويهي في المنهج وانضوى الى الشيخ أبي الأنوار السادات ويأتي إليه في كل يوم وكان إنسانًا حسنًا بهي الشكل لطيف الطباع عليه رونق وجلالة جميل المحادثة حسن الهيئة توفي بعد أن تعلل دون شهر عن مائة وست عشرة سنة كامل الحواس إذا قام نهض نهوض الشباب ودفن ببستان المجاورين وكان يتكتم سني عمره رحمه ومات الإمام العلامة واللوذعي الفهامة رئيس المحققين وعمدة المدققين النحوي المنطقي الجدلي الأصولي الشيخ أحمد بن يونس الخليفي الشافعي الأزهري من قرابة الشهاب الخليفي ولد سنة 131 كما سمعته من لفظه وقرأ القرآن وحفظ المتون وحضر على كل من الشبراوي والحفني وأخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ محمد الدقري والدمنهوري وسالم النفراوي والطحلاوي والصعيدي وسمع الحديث على الشهابين الملوي والجوهري ودرس وأفاد بالجامع الأزهر وتقلد وظيفة الإفتاء بالمحمدية عندما انحرف يوسف بك على الشيخ حسن الكفراوي كما تقدم فاتخذ الشيخ أحمد أبا سلامة أمينًا على فتاويه لجودة استحضاره في الفروع الفقهية وله مؤلفات منها حاشية على شرح شيخ الإسلام على متن السمرقندية في آداب البحث وأخرى على شرح الملوي في الاستعارات وأخرى على شرح المذكور على السلم في المنطق وأخرى على شرح شيخ الإسلام على آداب البحث وأخرى على شرح الشمسية في المنطق وأخرى على متن الياسمينية في الجبر والمقابلة وشرح على أسماء التراجم ورسالة متعلقة بالأبحاث الخمسة التي أوردها الشيخ الدمنهوري ولازم الشيخ الوالد مدة وتلقى عنه بعض العلوم الغريبة وكملها بعد وفاته على تلميذه محمود أفندي النيشي وكان جيد التقرير غاية في التحرير ويميل بطبعه الى ذوي الوسامة والصور الحسان من الجدعان والشبان فإذا رجع من درسه خلع زي العلماء ولبس زي العامة وجلس بالأسواق وخالط الرفاق ويمشي كثيرًا بين المغرب والعشاء بالخفيفة نواحي داره جهة بين السيارج وغيرها ويرى في بعض الأحيان على تلك الصورة في الأوقات المذكورة في نواح بعيدة عن داره وسافر مرة الى جهة قبلي في سفارة بين الأمراء أيام عابدي باشا ولم يزل على ذلك الى أن توفي في أوائل رجب من هذه السنة سامحه الله. ومات
|